الذكاء الاصطناعي وتحولات سوق العمل: تهديدات مستقبلية وفرص مشروطة
يشهد العالم المعاصر موجة تكنولوجية غير مسبوقة، تمثّلت في التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي (AI)، الذي بات يتغلغل في مختلف قطاعات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والمهنية. وإذا كان يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره محركًا أساسيًا للتقدم والابتكار، فإن وجهه الآخر يطرح تهديدات حقيقية على مستقبل العمل، خصوصًا في الدول النامية والناشئة. تزداد المخاوف من أن تؤدي هذه التحولات إلى اختفاء الملايين من الوظائف، وتوسيع فجوة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين الشمال والجنوب. ويهدف هذا المقال إلى تحليل أثر الذكاء الاصطناعي على سوق العمل من خلال قراءة نقدية وتحليلية لمآلاته المحتملة، واستشراف تداعياته على المجتمعات الهشة. 1. الذكاء الاصطناعي كعامل لإعادة تشكيل سوق العمل لقد تجاوز الذكاء الاصطناعي منذ سنوات مرحلة التجريب إلى مرحلة التشغيل الواسع النطاق في القطاعات الإنتاجية والخدماتية، بدءًا من التصنيع الآلي، مرورًا بالتجارة الإلكترونية، وصولًا إلى مجالات التعليم والصحة والقضاء. وتشير التقارير الصادرة عن المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF) إلى أن نحو 85 مليون وظيفة قد تُلغى بحلول سنة 2025 بسبب الأتمتة، في حين قد تنشأ نحو 97 مليون وظيفة جديدة تتطلب مهارات مختلفة. ومع ذلك، فإن هذه "الوظائف الجديدة" لن تكون متاحة بالتساوي، بل ستتطلب مهارات عالية وتدريبًا متخصصًا، ما يعني أن الشعوب الفقيرة والمهمّشة، التي تفتقر إلى بنى تحتية تعليمية وتكنولوجية متقدمة، ستكون الأقل استفادة والأكثر تضررًا من هذه التحولات. 2. تحذيرات من الداخل: بيل غيتس نموذجًا في هذا السياق، يُعتبر تصريح بيل غيتس – أحد أبرز رواد التكنولوجيا العالمية – دليلًا على جدية المخاطر. فقد صرّح بأن الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى اختفاء عدد هائل من الوظائف التقليدية، ولن تبقى سوى مجالات محدودة، من بينها: تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي نفسها (AI Engineering) بعض قطاعات الطاقة ذات الحساسية الأمنية العالية (مثل القطاع النووي) بعض تخصصات الطب والبحث العلمي وهذه المجالات، بطبيعتها، لا تُتاح إلا للنخب المؤهلة تقنيًا، وهي نخب تتركز في الدول المتقدمة. أما غالبية سكان العالم، وخاصة في دول الجنوب العالمي، فهم مهددون بالإقصاء من دورة الاقتصاد الحديث، ما لم تُتخذ تدابير استراتيجية عاجلة لإعادة تأهيل القوى العاملة. 3. تداعيات مستقبلية على الدول النامية تشير المعطيات إلى أن البلدان النامية ستتحمل العبء الأكبر من هذه التغيرات. ويُعزى ذلك إلى عوامل متعددة، منها: الاعتماد الكبير على الوظائف اليدوية منخفضة المهارة ضعف أنظمة التعليم المهني والتكنولوجي نقص الاستثمارات في البحث والابتكار الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية القائمة أصلًا وهذا قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة، واتساع رقعة الفقر، وتزايد الهجرة غير النظامية، فضلًا عن تصاعد القلق الاجتماعي والسياسي في تلك البلدان، مما قد يسفر عن اضطرابات داخلية أو انهيار بعض الأنظمة الضعيفة. 4. فرص مشروطة ومسؤوليات وطنية ودولية رغم هذه التحديات، لا ينبغي النظر إلى الذكاء الاصطناعي بمنظور سلبي خالص. إذ يمكن، إذا ما توفرت الإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية، أن يكون هذا التحول فرصة لإعادة هيكلة الاقتصادات وتحقيق قفزات نوعية. من بين الإجراءات المقترحة: إدماج الذكاء الاصطناعي في مناهج التعليم بشكل مبكر دعم الابتكار المحلي وتمويل الشركات الناشئة التكنولوجية تشجيع التعاون بين الدول المتقدمة والنامية في مجال نقل التكنولوجيا تعزيز الحماية الاجتماعية للفئات المتضررة هذه الإجراءات تتطلب إرادة سياسية حقيقية، وتعاونًا دوليًا صادقًا، يراعي مبدأ "العدالة التكنولوجية" كشرط أساسي لتحقيق استدامة التنمية. إن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد طفرة تكنولوجية، بل تحوّل بنيوي في الاقتصاد العالمي وسوق العمل. وإذا لم تُواكب الدول النامية هذه التحولات بخطط واضحة وإصلاحات هيكلية، فإنها مهددة ليس فقط بالتراجع الاقتصادي، بل بالفوضى الاجتماعية الشاملة. إن تحذيرات الخبراء، أمثال بيل غيتس، يجب ألا تُؤخذ باستخفاف، بل تُترجم إلى برامج عمل واقعية، تضمن كرامة الإنسان وحقه في العمل والمعرفة. فنحن اليوم في زمن يهدد فيه الذكاء الاصطناعي كل ما هو تقليدي وبشري، ما يُحتّم علينا التفكير في سبل الحفاظ على إنسانيتنا، وسط سباق تكنولوجي لا يعترف بالضعفاء ولا ينتظر المتأخرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق